كتاب حياتي للمؤلف أحمد أمين
تناولت في هذه الإقتباسات الجنوانب العاطفية والنفسية التي شكلت هذه الشخصية...
“إن الذي يوقعك في هذا التفكيرالمحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت”
“ولست أميل إلى الاجتماع كثيرا، ولا أحب يوما يمر دون أن أخلو فيه إلى نفسي بعيدا عن أهلي وولدي.”
وهو عبارة عن سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق.
- قال :ورأيت بعض زملائي يقدمون طلباً للدخول في مدرسة دار العلوم، فقدمت مثلهم، ورأيت الأمر سهلا علي؛ فهم يمتحنون في حفظ القرآن وأنا أحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وأنا أحفظها وأفهمها وحلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرساً في المدارس الأميرية. ولكن قبل الامتحان لابد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة، ذهبت إلى أكبر طبيب إنجليزي فكشف على عيني، وكتب لي أضخم نظارة قانونية تناسب نظري، ومع ذلك تقدمت للامتحان فسقطت، وحز في نفسي أن أرى زملائي ينجحون ولا أنجح، ويدخلون المدرسة ولا أدخل، ثم عدت إلى الأزهر.
- “والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة.”
- “والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق.”
- “وإذا كنا لا نستسيغ عري كل الجسم فكيف نستسيغ عري كل النفس؟”
- “وكل إنسان — إلى حد كبير — نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به”.
- “تقع الأحداث على أعصابي، فأنفعل لها انفعالا خاصًا بي، وأقومها تقويمًا يختلف — قليلا أو كثيرًا — عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها إنسان، ويضحك منها آخر؛ ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث”
- “فقد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير”.
- “فقد كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يومًا تعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح فصرخت، ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات، وكان ذلك وأنا حَمْلَُ في بطن أمي، فتغذيت دمًا حزيًنا ورضعت بعد ولادتي لبًنا حزيًنا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزيًنا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب عليَّ من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم.”
- يقول أحمد أمين عن أبيه : كان يأكل وحده ويتعبد وحده، وقلما يلقانا إلا ليقرئنا. أما أحاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع أمنا.
- “لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير.
- “وربما كان هذا عاملا من عوامل حبي العزلة حتى لا أقع في مثل هذه الأغلاط، ولكن أحمد الله أن كان نظري على قصره سليمًا، فقد احتملني على كثرة قراءتي ومداومة النظر في الكتب حتى جاوزت الستين.”
- “وعلى كل حال فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو ينميها، حتى تعيش عيشتها المقدورة لها وفًقا لنظام الكون وقوانينه.”
- “وكثيرا ما تقوم بينهن الخصومات فيتبادلن السباب أشكالا وألونا. ويستعملن في سبابهن كل أنواع البلاغة من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية، ويتناولن فيه الآباء والأمهات والأعراض والتعبير بالفقر وبالفجور وفظائع الأمور، ويطول ذلك ويقصر تبعاً للظروف وقد يتحول السباب إلى ضرب، ويتحول تضارب النساء إلى تضارب الرجال — ولولا الشيخ في حارتنا لكان من ذلك الشيء الكثير.”
- “والحياة ليست جداً محضاً ولا هزلا محضاً ولا نعيما صرًفا ولا شقاء صرًفا، وخير أنواع التعليم ما صور صنوف الحياة.”
- “كل شيء حولي كان كفيلا أن يميت الذوق ويبلد الحس ويقضي على الشعور بالجمال”.
- “وما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس”.
- “وعدت إلى بيتي والهم يملأ قلبي، ولكن الزمن بلسم الهموم،”
- “وعلى الجملة فلئن كان أبي هو المعلم الأول فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثاني، انتقلت بفضله نقلة جديدة وشعرت أني كنت خامداً فأيقظني، وأعمى فأبصرني، وعبداً للتقاليد فحررني، وضيق النفس فوسعني”.
- “فبظلم المصريين بعضهم بعضاً، وظلم حكامهم لهم وبعصيان الله في أوامره ونواهيه، سلط الله عليهم الإنجليز يسومونهم سوء العذاب،”
- “وأما أنا فقد وضع هذا الحادث على عيني منظاراً أسود، فلا أرى في الدنيا إلا السواد، ولا أحب أن أسمع من الأصوات إلا صوت البكاء، فالشجرة الناضرة إلى ذبول، والحياة المبتهجة إلى فناء، والحمامة إذا غنت فإنما تبكي، والسعيد إنما يسعد ليشقى”
- “صرت أكثر تسامحاً مع المخالفين، وأوسع صدراً للمعارضين.”
- “إن من اقتصر على اللغة العربية يرى الدنيا بعين واحدة، فإذا عرف لغة أخرى رأى الدنيا بعينين.”
- “وللإنجليز طابع في النكت والنوادر غير الطابع المصري، فأكثر نكتهم ملفوف، مبني على الذكاء، والقليل منهم يعتمد على اللعب بالألفاظ”.
- “وهو فكه النفس لطيف المحضر تأنس لقربه وتستوحش لبعده، يتحدث فيودع قلبه حديثه”
- أحد أصحاب محلات الكتب له في ذلك طبع غريب فهو يرضى أن يبيع الكتاب لهاويه الذي ينتفع به بجنيه، ولا يرضى أن يبيعه لمن لا ينتفع به بجنيهين.
- وبعض أحداث الدنيا يحدث على غير انتظار ومن غير سابق مقدمات، وإذا كان الموت ، وهو القاضي على الحياة قد يحدث فجأة في أشد أوقات السرور، فأولى أن تحدث الأزمات مما دونه من الحوادث.
- ويل للناس من النساء إذا انتقمن.
- وكم تقدمت إلى بيوت -للزواج -رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة.
- وهكذا لقيت العناء في الزواج، فكلما دلني صديق على فتاة فإما أن أجد مانعاً منها وإما أن تجد مانعاً مني، فمن أرضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا أرضاه.
- وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجوراً والنظر إلى الفتاة وحديثها إغواء شيطانيا، كل هذا لم يهبني مجالا للحب، بل كبته في أعماق نفسي إلى أن تزوجت.
- ولكن شتان بين الواقع والخيال؛ فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء، والواقع يلتصق بالأرض ويتقيد بالظروف والبيئة والمكان والزمان وغير ذلك.
- ولكن صدم زوجتي بعد قليل أن رأتني هادئًا غير مرح، قليل الكلام، وقد تربت في بيت مرح، مملوء بالضحك والبهجة، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن، فظنت أني لا أقدرها أو نادم على الزواج بها. وأؤكد لها أن هذا طبعي كسبته في بيتي فلم تصدق ولم تطمئن إلا بعد طول العشرة ووثوقها من أني كذلك مع غيرها لا معها وحدها.
- وإني لأعجب لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألفت وأكتب ما كتبت وأقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها. ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم ومسامرتهم وإطالة عزلتي على مكتبي.
- كلام في التفاهم مع الزوجة " مشكلة وسائل التفاهم، فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع وإما أصر، وإما أعدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات.
- حكمة أحمد أمين في التعامل مع الزوجة " وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضح بالمنطق أحياًنا، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة".
- في تربية الأولاد " فأكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، وأكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك".
- كلام في تربية الأبناء " وكان حنوي وحنو أمهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيراً ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم، وتعبنا لراحتهم، وأنفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم، ونحن نطمع أن يتولى لله وحده الجزاء، أما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون أنها تجرح إحساسهم، وعلى التقصير القليل يظنونه مسا بحقوقهم، وعلى العمل يسيئون تفسيره، وقد يكون الغرض منه خيرهم؛ ولكن الموقف النبيل يقضي بأن تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لأبنائهم وأمتهم، فإن قدره الأبناء فأدوا واجبهم نحو آبائهم فبها، وإلا فقد فعل الآباء ما عليهم، والمكافئ لله".
- وقد علمني أبي الإفراط في التفكير في العواقب ومن فكر في العواقب لم يتشجع.
- من ذكرياته كقاضي: "أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالبوليس-الطاعة-فلم أفهمه مطلًقا إلا إذا فهمت حباً بإكراه، أو مودة بالسيف. ولهذا كنت أصدر هذه الأحكام بالتقاليد لا بالضمير".
- فالأبيض إنما يعرف بياضه بمقارنته بالأسود والأخضر والأصفر، والأمة لا يعرف أنها متأخرة إلا بقياسها بأخرى متقدمة، والنظام لا يعرف أنه فاسد إلا إذا عرف أو على الأقل تخيل بجانبه نظام صالح، وهكذا ..
- وما أثقل الرسميات! إنها عمل آلي لا دخل للقلب فيها.
- سألته: هل هو راض عن خطته التي اختطها في امتناعه عن الزواج؟ فقال: إنه آسف على هذه الخطة، ويود لو عاد إلى الشباب فتزوج، فالزواج هو الذي يبعث الأمل في الحياة، وأنا الآن — من غير زواج — في شيخوخة بائسة تنتظر الوفاة.
- والرحلة في نظري لا تكون لها قيمة حقة إلا إذا تفتح القلب لما يرى، وجال الخيال في ذلك جولته، ومزج الإنسان ما يرى بنفسه.
- لا يصفو الزمان حتى يكدر، ولا يحسن حتى يسيء
- شعرت بخمود شديد في جسمي، وانقباض في صدري فعرضت نفسي على الطبيب فقرر أني أصبت بالبول السكري، وألزمني الصوم عن الأكل إلا السوائل أياما، ثم السير بعد ذلك على نظام في الأكل دقيق تتجنب فيه النشويات والسكريات، ومن ذلك الحين دخلت في حياتي حقن الأنسولين، وقد صحبني هذا المرض — إلى الآن — خمس عشرة سنة، أحاوره ويحاورني، ويصادقني أحيانا ويعاديني، وأمتنع من أجله عما أشتهي، وأتجنب الجهد الشاق على غير رغبتي، وأحيانا يرميني بالأفكار الحزينة وألوان الحياة القاتمة، وأحمد لله إذ لم يكن من الشدة كما هو عند غيري.
- وكان من تجاربي أن رأيت أكثر الناس يسيرون مع العظماء في آرائهم وأفكارهم ولو اعتقدوا بطلانها، ولكن إذا تشجع أحد ودافع عن الحق وجهر به وصمم عليه تبعه هؤلاء وانضموا إلى جانبه ضد العظماء فليس عندهم من الشجاعة ما يبدئون به قول الحق، ولكن ليس عندهم أيضا من السفالة ما يناهضون به قائل الحق.
- أن كثيرا من الناس يتضايقون من المعارض وقد يحاولون إيذاءه والتنكيل به، ولكنهم إذا تيقنوا أنه إنما يدافع عما
- يعتقد، وأنه إذا دافع بأدب، وفي لياقة ولباقة، من غير أن يمس شعورهم وكرامتهم كان موضع الاحترام والإجلال والكرامة من مؤيديه وخصومه معا.
- إن الرجل الصغير يستعبده المنصب، والرجل الكبير يستعبد المنصب.
- وكانت مأساة العمادة أني فقدت بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء وما أقل عددهم. كان يحبني وأحبه، ويقدرني وأقدره، ويطلعني على أخص أسراره وأطلعه، وأعرف حركاته وسكناته ويعرفها عني، ويشاركني في سروري وأحزاني وأشاركه، وكنت هواه وكان هواي، واستفدت من مصادقته كثيرا من معارفه وفنه ووجهات نظره، سواء وافقته أو خالفته، فأصبح يكون جزءا من نفسي ويملأ جانبا من تفكيري ومشاعري، على اختلاف ما بيننا من مزاج، فهو أقرب إلى المثالية وأنا أقرب إلى الواقعية.
- وكم كنت أتمنى أن تعيش معي بعد وفاة أبي لأطالع وجهها وأتلقى دعواتها صباح مساء، ولكن صممت أن تكون في حيها بين جيرانها، وخشيت أن ينالها أذى ولو قليل من العداء الطبيعي بين الزوجة والأم، فجاريتها على رأيها وخضعت لمشورتها.
- وهل نحن إلا صور جديدة لآبائنا، يعيشون فينا، ويحلون في جسومنا ونفوسنا.
- ترك العمادة وعدت أستاذا وخلت يدي من كل سلطة إدارية، وأتت وزارة لا تعدني من رجالها، فلم يكن لي من شأن في علاوات وترقيات، وليس لي قبول في شفاعات، وإذ ذاك سفرت لي وجوه قبيحة من إنكار الجميل وقلة الوفاء وعدت إلى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق.
- وأحيانا أرى القلم يجري في الموضوع حتى لا أستطيع أن أوقفه، وأحيانا يسير في بطء وعلى مهل حتى لا أستطيع أن أستعجله، وأحيانا يتعثر فلا أجد بدا من الإعراض عن الكتابة. ومن الصعب تعليل ذلك، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه، وقد يكون قوة الدواعي وضعفها، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه.
- ولهذا لما أصبت في عيني ونهاني الأطباء عن الكتابة زمان صعب علي الإملاء، ولم أجد من غزارة المعاني ما كنت أجد عند مزاولة الكتابة بنفسي.
- وواجب الأدباء أن يوصلوا غذاءهم إلى كل عقل، ونتاجهم الفني إلى كل أذن، فإذا لم يفعلوا فقد قصروا.
- فما أضعف الإنسان وأقواه، وما أقدره وما أعجزه!
- حاولت أن يكون ظلامي مضيئًا، فلئن حرمت النور من العينين فليستنر قلبي، ولئن حرمت نور البصر فلتضئ بصيرتي، ولكن كنت أنجح في هذا حينا وأخفق أحيانا، فقد اختلف الإلف والعادة وكنت أشعر دائما أن العينين هما الكوتان اللتان تطل منهما نفس الإنسان على الدنيا، فإذا عدم النظر فقد أغلقت الكوتان، وحبست نفس الإنسان؛ وأحيانا
- كنت أتردد بين الأمل في عودتي إلى ما كنت عليه وأن تجري الأمور في المستقبل القريب كما جرت في الماضي، فأشعر بالطمأنينة والراحة، وبين اليأس والخوف من الظلام الدائم، فيستولي علي الفزع والهلع؛ وأرهب ما يكون إذا تقدم الليل وانقطع الزوار وانصرف الأهل، ونام الناس، واعتراني القلق، وشعرت بالوحدة، واستولت علي الأفكار المظلمة، فاجتمع علي ظلام الليل وظلام النفس.
- لم يكن لي من العزاء أحسن من الإيمان، فهو الركن الذي يستند إليه المرء في هذا الوقت الرهيب، ومن دونه يشعر كأن الهاوية تحت قدميه.
- “ولا أشك في أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي”
- “إن الذي يوقعك في هذا التكفير المحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت”
- “أن طبيب العيون لا يزال يمنعني من القراءة والكتابة وكانت حياتي كلها قراءة وكتابة، فلما حرمتهما أحاطني فراغ رهيب مخيف، والفراغ أدهى ما يمنى به الإنسان. فليس في الحياة سعادة إلا إذا ملئت بأي نوع من أنواع الامتلاء، جد أو هزل، وعمل أيا كان نوعه. فإذا طال الفراغ فالوبال كل الوبال”
- “وأدخل المكتبة لذكرى الماضي فيزيد ألمي. غذاء شهي وجوع مفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه، وأتساءل: هل يعود نظري كما كان فأستفيد منها كما كنت أستفيد؟ وهذه الآلاف من الكتب آلاف من الأصدقاء، لكل صديق طعمه ولونه وطرافة حديثه، وقد كان كل يمدني بالحديث الذي يحسن حين أشير إليه، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، ويمدون إلي أيديهم ولا أستطيع أن أمد إليهم يدي”.
- “وأهم ما لاحظته اختلال ما كان عندي من قيم لشئون الحياة، فأستعرض كثيرا مما كنت أقومه فلا أجد له قيمة، وتعرض علي متع الحياة المختلفة فلا أجد لها وزنا، وتعرض علي أخبار الناس يسلكون في الحياة سبلا مختلفة، فأهزأ بكل ذلك.”
- “لقد أفادتني هذه التجربة المرة أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيراً بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت، فمن وهب هاتين الهبتين فقد منح أكبر أسباب السعادة.”
- “من أجل ذلك ضعفت قدرتي على القراءة والكتابة مع الرغبة الشديدة فيهما، واضطررت أن أستعين بعض الوقت بمن يقرأ لي ويكتب، وقد اعتدت الإملاء بعض الشيء ولم أكن أحسنه أول الأمر، لأني طول حياتي العلمية كنت لا أعتمد إلا على نفسي فيهما. وذهني يدرك بالعين ما لا يدرك بالسمع، وأفكاري ترد على قلمي أكثر مما ترد على قلم غيري، وذهني كثير الشرود عندما أسمع وقراءة العين تحصره؛ وفكري بطيء إذا أملى، وكنت إذا أمسكت القلم تواردت علي المعاني وأسرع قلمي في تقييدها.”
انتهى
لم يعجبني
ردحذفهذا من طيب أصلك
حذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفآه على زمن الأدب ونهضة المقالة والكتابة ٫
ردحذفاسمح لي أخي بنشر رابط لمقالات العبقري أحمد أمين في موقع المحتى الرقمي
مقالات الآديب أحمد أمين للقراءة
رائع جدا وشكرا لذائقتك الجميلة
حذف