ملخص كتاب
(القراءة المثمرة مفاهيم وآليات)
للدكتور: عبدالكريم بكار
كان لأمةِ الإسلام تاريخٌ حافل بالإنجازات الكبرى في شتى المجالات، والمتابعُ لتاريخ النمو الحضاري في الإسلام يَلحَظ أنه كان في توتُّره مقترنًا بـ(القراءة)، وحب العلم والشغف بالمعرفة؛ مما لا يدع مجالًا لأي شك في أن الولعَ بالاطلاع واصطحاب الكتاب هو أحدُ الحلول المهمة للأزمة الحضارية التي تعانيها أمةُ الإسلام.
سيكون من المؤسف أن تحتاج أمةٌ أولُ كلمة نزلت في كتابها (اقرأ) إلى من يحثها على القراءة، ومع هذا فإن علينا أن نواجه مشكلاتنا بواقعية وشجاعة، ونكف عن التغني بأمجاد الآباء والأجداد، والإشادة بانتصارات لم نخض معاركها.
التعلم مدى الحياة:
إن فَطْر الله جلا وعلا لبني الإنسان على التساؤل وحُب الاستكشاف أتاح لهم أن يندفعوا دائمًا نحوَ معرفة المزيد، دون أن يجدوا أي حدود للتشبُّع أو الارتواء.
وهناك الكثير من الدواعي التي تفرض على الواحد منا أن يتعلم، ويقرأ، ويكتسب الخبرات مدي الحياة؛ منها:
1- أنَّ الذي يدعو الإنسان إلى مزيد من التعلم هو العلمُ نفسه، فكلما زادت المعرفة، اتسعت منطقة الجهل.
فالمثقفُ الذي يرغب في الحفاظ على قيمة ثقافته وكرامتها، مُطالَب بأن يعيد تكوينَ ثقافته على نحو مستمر ومتجدد، فجهلُنا ينبسط مع تقدم المعرفة، وهذا يمثل تحدِّيًا متزايدًا لكل قارئ.
2- لم يكن لدى الناس قديمًا إحساسٌ قوي بارتباط كسب الرزق بمدى ما يحصلونه من علم، لكن الوضع تغير اليوم، إذ تضاءلت المهنُ والوظائف التي يمكن للأميين ومحدودي الثقافة الاضطلاعُ بها.
3- إن ما نمتلكه اليوم من معارف وخبرات، لا يتمتع بقيمة مطلقة، وشيوع الأمية الأبجدية والحضارية، قد يجلب على أمة الإسلام مشكلات، فالإسلام بما أنه بنية حضارية راقية، لا يتجلى على نحو كامل إلا عبر تجربة معرفية وحضارية رائدة.
4- إن العقل البشري، يميل دائمًا إلى تكوين عادات، ورسم أطر لعمله، وهي مع مرور الوقت تشكل نوعًا من البرمجة له. وكلما كانت ثقافة الإنسان ضحلة، ضاقت مساحة تصوراته، وأصبح شديد المحلية في نماذجه ورؤاه.
5- التدفق الهائل للمعلومات، وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع مستمر، والنتيجة المباشرة لذلك: هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات، والعلاج لذلك: دوام الاطلاع والمتابعة، حتى لا يتدهور ما لدينا من معرفة.
القراءة ومصادر المعلومات الأخرى:
عصرنا عصر انفجار المعرفة؛ فالأعداد الهائلة من العلماء الذين يشتغلون بالبحث العلمي، والوسائل المتطورة في حفظ المعلومات ونقلها وبثها؛ جعلت الناس مغمورين بالأخبار والمعلومات التي ترد إليهم.
هذه الوضعية حملت الناس على طرح سؤال حول وظيفة القراءة والكتاب؛ والحقيقة أن لتلك الشكوى ما يُسوِّغها؛ ويكفي أن نعلم أن متوسط ما يُطبع من معظم الكتب في البلاد العربية، لا يتجاوز ثلاثة آلاف للكتاب الواحد.
إن وسائل الإعلام تقدم برامج على درجة عالية من الإتقان، مع معلومات قليلة قلما تتصل بالحاجة المعرفية الحقيقية للمتابع لها، بالإضافة إلى ما سببته من أضرار بالغة للشعور بالحاجة إلى التفكير، فمعدو برامجها قاموا بذلك نيابة عن المتلقِّين.
فمُشاهِد تلك الوسائل يتلقى مركبًا كاملا من البيانات والإحصاءات بأسلوب بارع، مما يدفع إلى الاستسلام لها، والانقياد إلى توجهاتها، وهذا كله مغاير لمتطلبات التطور العلمي والاجتماعي الحديث.
وهذا كله لا يجعلنا ننكر أن الدفق الإعلامي قد أوجد نوعًا من الاستنارة العامة، ورفع درجة الوعي لدى الناس.
وأعتقد أن الكتاب ما زال هو الوسيلة الأساسية للتثقيف الجيد، حيث نستطيع أن نمارس حريتنا كاملة في اختيار ما نحتاج إليه، ومع هذا فلست أميل إلى التقليل من شأن مصادر المعلومات الأخرى، فالمهم دائمًا أن تكون أهدافنا في التثقيف والارتقاء المعرفي واضحة.
من أجل القراءة:
إذا كانت القراءة أهم وسيلة لاكتساب المعرفة، وإذا كان اكتساب المعرفة أحد أهم شروط التقدم الحضاري، فإن علينا ألا نبخل بأي جهد يتطلبه توطينُ القراءة في حياتنا الشخصية، وفي حياة الأمة عامة.
وإليك أهمَّ ما أظن أن علينا أن نقوم به من أجل إشاعة ثقافة (اقرأ)، وذلك على النحو التالي:
1- الدافع:
زود البارئ جل وعلا الإنسان بعدد من القوى الفطرية (الغرائز) التي تدفعه إلى سلوك معين، وترسم له أهدافَه وغاياتِه، من أجل تحقيق توازنه الداخلي، وإعداده للتكيف مع البيئة الخارجية.
وهناك إلى جانب هذه حاجات ودوافع، يتوقف عليها تحسين نوعية الحياة والارتقاء بالإنسان وتوفير الهناء له، ولم يصادف الإنسان مشكلة في التعامل مع دوافعه الأساسية، لكن مشكلته في الاستجابة لدوافعه الثانوية، وهذا هو السبب الجوهري في انعدام الدافع نحو القراءة لدى كثير من المسلمين.
وحين يقطع المجتمع شوطًا في طريق الحضارة، فإنه يمارس على أفراده ضغوطًا من أجل الرفعة، وهذا ما نجده واضحًا في المجتمعات الإسلامية الأولى، حيث نظرت إلى العلم على أنه من أفضل القربات إلى الله تعالى، وهذا ما نجده اليوم في المجتمعات المتقدمة.
فالخطوة الأولى تكمن في إيجاد الدافع نحو القراءة، وسوف ننجح إذا أَولَيْناه ما يستحقه من الجدية والاهتمام.
2- تكوين عادة القراءة:
البدايات دائمًا شاقة، وأشق مراحل الطريق هي المرحلة الأولى، وكثير منا يجد صعوبة بالغة عند البدء في أي عمل، وذلك لأن نتائج جهده في البداية تكون ضعيفة.
البدايات التربوية الجيدة تبدأ دائمًا في المنزل، والآباء هم المربون الطبيعيون، ولذا كان اهتمامهم بالعلم عاملًا حاسمًا في تطور الموقف النفسي لأطفالهم تجاه قضية التعليم، فسردُ حكاية أو قراءة قصة مما يتمتعُ به الطفل، وينمي خيالَه المبدع، وسيكون لشراء الكتب المصورة، أو وجود مكتبة في المنزل أثرٌ كبيرٌ في توجيه الطفل نحو القراءة.
وتأتي بعد ذلك وظيفة المؤسسات التعليمية في رعاية ما بدأه الأهل في البيت، ولن يكون هذا إلا بتكليف الطلاب بالرجوع إلى المراجع والموسوعات وتلخيص الكتب، والمناقشات حول الكتب الجديدة.
إن قابليتنا للتعلم، تتحول بفضل ممارسة القراءة إلى براعة، كما أن التكرار والتمرين يجعل عادة القراءة نوعا من الاكتشاف وتنمية العقل، وفيه الكثير من المتعة واللذة.
3- توفير الكتاب:
لأن القراءة لا تتمتع بأي أهمية لدى السواد الأعظم من أبناء الأمة، فإننا نسمع شكوى مستمرة من غلاء الكتب، وعدم توفير المال المطلوب لشرائها.
وقضية كبرى كقضية القراءة، يحتاج تعميمُها إلى عدد من (الحلول المركبة) وليس إلى حل واحد، ومن تلك الحلول:
• إيجاد تنظيمات تُلزم الهيئاتِ والجهات المختلفة بإيجاد مكتبات مناسبة لتثقيف منسوبيها؛ مثل النوادي، والنقابات، ومجالس الأحياء، والبلديات.
• من المهم أن يكون هناك رابطةٌ لأصدقاء الكتاب، يكون همها العمل على توفير الكتاب، وتسهيل الوصول إليه، وذلك من خلال المعارض، وتنشيطِ سوق الكتاب المستعمل، وتأسيسِ صندوق لدعم بعض الكتب القيمة، لتوفيرها للناس.
• إيجاد نظام وطني لإعارة الكتاب وتبادله بين الهيئات والمؤسسات العلمية، على غرار ما هو معمول به في عدد من الدول المتقدمة، ومن أجل ذلك لا بد من تعزيز أداء الخدمات البريدية.
• قيام الجامعات والهيئات العلمية بتبسيط العلوم، عن طريق إصدار عدد من سلاسل (كتب الجيب) في التخصصات المختلفة، من أجل مساعدة الناس على التثقيف والاطلاع.
• إن تخصيص 2% من مصروف الأسرة، كافٍ لتأمين عدد من الكتب متوسطة الحجم شهريًّا.
4- توفير الوقت للقراءة:
إن أكثر من 80% ممن لا يقرؤون كتابًا في الشهر، يعتذرون بأنه ليس لديهم وقت للقراءة... أعذار كثيرة يبديها كثير من الناس، والإحساس بالزمن منتج حضاري، فالوقت هو المادة التي صُنعت منها الحياة، وسيكون لكل الذين يبذرون في إنفاقه أن يوجدوا الكثير والكثير من البراهين على حسن تعاملهم معه.
ولو أن واحدًا منا وضع سجلًا كاملًا، يوضح فيه كيفية قضائه لأوقاته لوجد أن نحوًا من 20% من نشاطاته لا يخدم أي هدف، ولا يعود عليه بالنفع، وإني واثق أن تنظيم هذا الجانب وحده من حياتنا، كفيل بأن يوفِّر لنا يوميًّا نصفَ ساعة على الأقل، يمكن أن نستفيد منها في القراءة.
إن المشكلة الأساسية للذين لا يقرؤون أنهم لا يملكون أية أهداف أو أولويات، وسيكون مفيدًا أن نحاول تغيير سلوكنا في التعامل مع الوقت، وهذا يحتاج إلى وقت، وعلينا أن نثابر ولا نيأس.
5- تهيئة جو القراءة:
إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين إمكانية الفهم والاستيعاب وبين الأجواء والأوضاع التي تجري فيها القراءة، وهناك شروط عدة ينبغي توفيرها من أجل تهيئة الجو المناسب للقراءة؛ منها:
• يجب أن يكون مكان الدراسة منظمًا وجميلًا، يبعث على الارتياح والانشراح، وهذا يتوفر بوجود حجرة خاصة بالدارسة، ومن الملائم أن يستغرق القارئ الدقائق الأخيرة من الدراسة في ترتيب المكان والاستعداد للجلسة التالية.
• ينبغي أن تكون حجرة الدراسة صحيحة حسنة التهوية، جيدة الإضاءة، وينبغي أن تكون درجة الحرارة فيها بين 15 و21م، حتى يحتفظ القارئ بنشاطه.
• بعض الناس لا يهتم بهدوء المكان وانعزاله عن الناس، مما يفقدهم صفاء الذهن والقدرة على التركيز، لذا فإن مكان الدراسة ينبغي أن يكون بعيدًا عن الضوضاء داخل المنزل وخارجه.
• ينبغي أن يكون الكرسي مريحًا، وأن يكون مناسبًا لمكتب الدراسة، ويضع بجواره ما يحتاجه من مراجع وكتب، حتى لا يضيع الوقت في القيام والقعود.
• إن العبرة ليست بكثرة الكتب التي تُقرأ، وإنما بالإنتاجية والثمرة التي نقطفها، وهذا يوجب علينا أن نحرص على الاحتفاظ بدرجة من الحيوية والارتياح في أثناء القراءة، فالقراءة المثمرة تستحق منا التخطيط والتفكير والمثابرة والعناء.
لماذا نقرأ:
الإنسان متسائل بالفطرة، توَّاق إلى اكتشاف المجهول بالطبيعة، وحين يرتقي في معارج الحضارة؛ يتحول لديه كثيرٌ من المعارف العلمية من معطيات ممتعة إلى ضرورات حياة، يتوقف عليها نموُّه الرُّوحي والعقلي والمَهاري.
من هنا فإن أهداف الناس من وراء القراءة متنوعة، بحسب وضعية القارئ وما يريده من وراء ذلك، فظروف الحياة تجعل أهداف القراءة تتفاوت تفاوتا بعيدًا، وكثير من الناس لا يعرف لماذا يقرأ.
ويمكن أن نقول: إن الأهداف العامة لقراءة معظم الناس ثلاثة، هي:
1- القراءة من أجل التسلية، وهذه القراءة الأكثر شيوعًا بين الناس، وتثبت الإحصاءات أن نحوًا من 70% من القراء يتجهون إلى القراءة من أجل التسلية.
2- ومع ذلك فإن القراءة من أجل التسلية لا تخلو من فائدة، وقد يُشغل بها عن ملء فراغه بأشياء ضارة.
3- القراءةُ من أجل الاطلاع على معلومات أسلوبٌ يمارسه كثير من الناس، والجهد الذي يتطلبه هذا النوع من القراءة محدود أيضًا، وهذه الطريقة شائعة جدًّا؛ لأن في عالمنا الإسلامي (حمى) تجتاح كثيرًا من الناس، وهي البحث عن الأسهل.
4- القراءة من أجل توسيع قاعدة الفهم، وهي أشق أنواع القراءة وأكثرها فائدة، والذين يقرؤون من أجل هذا الغرض قلة من الناس؛ وذلك لأن أكثر الناس يعتقدون أن ما يملكون من قدرات ذهنية كاف وجيد.
5- إن القراءة من أجل الفهم، هي تلك القراءة التي تستهدف امتلاك منهج قويم في التعامل مع المعرفة، وتكسبنا عادات فكرية جديدة، وتلك التي تزيد في مرونتنا الذهنية.
أنواع القراءة:
أولًا- القراءة الاكتشافية:
لا بد للمرء من أن يغتبط لكثرة ما يرى من الكتب الجديدة في المكتبات، لكن هذا لا يدعو مطلقًا إلى أن نندفع إلى الشراء دون تأمل في مدى مناسبة ما نشتريه لنا، فقد يكون الكتاب في حد ذاته جيدًا، لكنك لست من الشريحة الموجه إليها.
ونستطيع خلال نصف ساعة أن نصل إلى حكم جيد على الكتاب إذا قمنا بالتالي:
1- قراءة مقدمة الكتاب، حيث يكشف كثيرٌ من الكتاب في مقدماتِ كتبِهم عن دوافع التأليف، وأهدافه، والفئة التي يخدمها الكتاب.
2- قراءة فهرس الموضوعات من أجل الاطلاع على موضوعات الكتاب، وأهم من ذلك اكتشافُ المنظور المنطقي للكتاب.
3- الاطلاع على فهرس المصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف في بناء كتابه، حيث إنها تمثل المورد الأساسي لمعلوماته وصياغته.
4- بعض المؤلفين يضع ملخصًا مكثفًا في آخر كل فصل لما أورده فيه، ومن المفيد قراءة بعض الملخصات لتحسُّس جوهر المادة المعروضة.
5- قراءة بعض صفحات أو فقرات من الكتاب لمعرفة مستوى المعالجة في الكتاب وهذا مهم جدًّا.
ثانيًا: القراءة السريعة:
إن المعرفة تتضاعف كل خمس عشرة سنة على أبعد تقدير، وهذا يعني أن الكتب المنشورة تتحدى القراء، وتتطلب منهم المزيد من الاستعداد.
بعد تصفح الكتاب واكتشاف مستواه، يقرر القارئ أي نوع من القراءة يستحق، فهناك كتب تُقرأ قراءة سريعة، وهناك كتب يجب أن تقرأ بدقة متناهية. وتقوم فكرة القراءة السريعة على ما هو معلوم من أن النظر يقفز من مساحة إلى أخرى، وعندما يستقر على مساحة معينة فإنه يلتقط عددًا من الرموز والإشارات، ثم يقفز ليستقر ثانية وهكذا.
وقد عرفت بعضُ الدول المتقدمة قيمة السرعة في القراءة، فأقامت الدورات للقراءة السريعة منذ أكثر من نصف قرن، وتهدف في المقام الأول إلى تدريب القارئ على أن يلتقط أكبر عدد ممكن من الكلمات في أثناء اللحظة التي تقف فيها العين.
مشكلة الفهم:
هناك من يقول: إن بطء القارئ في نقل عينيه من كلمة إلى أخرى، وقلة ما يلتقط في الوقفة الواحدة... ما هو إلا انعكاس لعجز العقل عن استيعاب معاني الصور التي نقلتها إليه العين، وارتباكه في تفسيرها وتحليلها؛ فسرعة القارئ منوطةٌ إلى حد بعيد بسهولة المادة التي يقرؤها.
وعل كل حال فإن القارئ الذي يقرأ مادةً سبَقَ له الاطلاعُ عليها، يستطيع أن يقرأ تلك المادة بسرعة أعلى بكثير من قارئ لم يَخبُرها قبل ذلك، مما يعني أن استمرار القراءة في محور من محاور المعرفة، سيكون مساعدًا أساسيًّا على قراءةٍ أسرعَ وإنجازٍ أعظمَ.
ثالثًا: القراءة الانتقائية:
حين يتجه المرء إلى التعمق في موضوع بعينه، فإنه يكون بحاجة إلى تتبع الكثير من المراجع والكتب المتنوعة للعثور على مادة متجانسة، والكتبُ التي يمكن أن يعود إليها أيُّ باحثٍ نوعان:
النوع الأول: كتب تنتمي إلى الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه الموضوعُ الذي يَبحث فيه، ويمثل هذا النوعُ المصدرَ الأساسي للباحث، فعن طريقه يمكن تكوينُ رؤية جيدة للبنية الأساسية للموضوع.
ومع التسليم بالأهمية القصوى لهذا النوع من المراجع، إلا أن الاقتصار عليه يجعل معرفةَ القارئ بموضوعه شبهَ معزولةٍ عن فروع المعرفة الأخرى. ومعظم القراء يؤثر الاعتمادَ على هذا النوع؛ لسهولة معرفته وحصره.
النوع الثاني: كتب لا تنتمي إلى الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه الموضوعُ الذي نود سبرَ أغواره، وفائدة هذا النوع من المطالعة أنه يعطينا لونًا من ألوان توحيد المعرفة، وإعادة الربط بين فروعها وأجزائها.
رابعًا: القراءة التحليلية:
إن القراءة التحليلية هي أفضل أسلوب يمكن للمرء أن يتبعه في استِكْناهِ مضمونِ كتابٍ ما في وقت غير محدد، فهي محاولة للارتقاء بالقارئ إلى أفق الكاتب الذي يَقرأ له، ومحاولة النفاذ إلى معرفة شيء من مصادره وخلفيته الثقافية.
سمات القارئ الجيد:
1- المثابرة على القراءة، والحماسة في متابعتها، والصبر عليها.
2- القارئ الجيد يتمتع بقابلية جيدة لاستيعاب الجديد، وبنية عقلية متفتحة، تقبل التحوير، وتستفيد من المراجعة.
3- القدرة على الاستجابة لنبض العصر الثقافي ضرورةٌ لمن يريد أن يقرأ قراءة مثمرة ينتفع بها.
4- من المهم للقارئ الجيد أن يعرف كيف يتعامل مع الكتب التي عزم على قراءتها، بالإضافة إلى الاهتداء إلى الطريقة التي ستتعامل بها مع كل كتاب، من حيث السرعة، والتلخيص والتعليق.
أنواع الكتب:
هناك نوع من الكتب لا يُقرأ دفعة واحدة، مثل: المراجع والمعاجم، وإنما يعود إليها طالبُ العلم عند الحاجة، فهي تحتفظ بقيمتها قرونًا عدة. ونوع ثان لا يتطلب فهمُه مهاراتٍ قِرائيةً عالية؛ فهو يقرأ للتسلية، وهذا التنوع من الكتب لا يقرأ في العادة سوى مرة واحدة.
وثمة نوع ثالث من الكتب يَشعُر المرء بأنه بحاجة إلى قراءة بطيئة وتركيز جيد، لكن بعد قراءته يشعر أنه أخذ كل ما فيه. وهذا النوع لا يمثلل أكثر من 5% مما هو مطروح في الأسواق من كتب.
وهناك نوع من الكتب يشعر قارئه أنه لم يستفد كل ما فيه مهما استخدم من مهارات القراءة، وأنه يستحق عودة ثانية، لكن إذا عاد إليه المرءُ مرةً ثانية لم يخرج كل ما كان يؤمله منه، وهذا النوع يحتاج إلى مهارات عالية في قراءته والرجوع إلى بعض الشروح والمراجع.
النوع الأخير من الكتب نادر جدًّا، وهو نوع لا ينضُب محتواه، وكلما عدت إليه شعرت أنه ينميك، وكأنه ينمو معك، يجد الفاقهون من المسلمين مثل هذا في القرآن الكريم.
مبادئ وقواعد:
1- مهمة الكاتب أن يوصل إلينا بعض المعاني والأفكار مما ابتدعه، أو اقتبسه من غيره، ومهمة القارئ تَلقِّي ذلك والاستفادة منه.
2- إن بين الفكرة التي يعبر عنها الكاتب وبين الكلمة التي يستخدمها مسافةً ما، وعلى القارئ أن يقطع تلك المسافة من خلال الملاحظة الحادة والخيال الخصب، والذهن المتمرس.
3- اللغة هي أداة التواصل الأساسية بين بني البشر، فاللغة كائن مبدع، والإبداع هو سر عظمتها؛ لذا فإن على القارئ أن يكون على وعي تام بالمعنى اللغوي للمفردات التي يقرؤها.
4- مما يسهل قراءةَ أي كتاب في أي علم معرفةُ المصادر والمراجع التي رجع إليها المؤلف؛ مما يساعد القارئ على فهم الكتاب الذي بين يديه.
5- إن القراءة التحليلية الجيدة تعني نوعًا من (التفلية) للكتاب، ومحاولة إضفاء نوع من التنظيم على محتواه الداخلي من أجل تسهيل استيعابه.
تساؤلات مهمة:
من واجب كل قارئ حريصٍ أن يعمِد إلى توجيه عدد من الأسئلة قبل قيامه بشراء الكتاب، وفي أثناء قراءته، وبعد الفراغ منه، ولعل أهم تلك التساؤلات ما يلي:
1- هل أنا من الشريحة التي يستهدفها المؤلفُ، ويوجه إليها خطابَه، وهذا مهم؛ لأن قراءة كتاب ليس موجهًا إليك قد لا تنفعك بأي شيء.
2- من المهم أن يعرف القارئُ هُويةَ الكتاب والجنس المعرفي الذي ينتمي إليه، وكلما استطاع القارئ أن يعبِّر عن ذلك على نحو دقيق وموجز كانت فائدته مما يقرأ أعظم.
3- من الأسئلة الحيوية أن يوجه القارئ لنفسه أسئلة تتعلق بمدى استيعابه لما قرأه، وأدوات اختبار الفهم كثيرة لعل من أهمها أداتين:
4- الأولى: أن يحاول القارئ أن يأتي بأمثلة وملاحظات على القواعد والأفكار والملاحظات التي يثيرها الكاتب.
5- الثانية: محاولة القارئ تلخيصَ ما قرأه في عبارات وفِقَر محددة، بأسلوبه الخاص.
6- من المهم أن يسأل القارئ نفسه: ما المسائل التي حاول الكاتبُ حلَّها، وتقديم رؤى فيها، وما الأسئلة التي طرحها الكاتب في القضايا التي يعالجها، ومدى جدية تلك الأسئلة وموضوعيتها.
الحوار مع الكاتب:
لا ريب في أن الهدف الأساسي من قراءة أي كتاب، ينبغي أن يكون هو الاستفادة والارتقاء في معارج العلم والفهم، وتحسين المحاكمة العقلية لدى القارئ، ونقد الكتاب، ومحاولة العثور على وجهة نظر أخرى غير وجهة نظر المؤلف.
إن القارئ الجيد لا ينجح في فهم الكتاب فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى فهم التيار المعرفي أو المذهب الذي ينتمي إليه الكاتب، وهذا يساعده على ترشيد حكمه النقدي، ومن ناحية أخرى لا ينبغي للقارئ أن يصدر حكما نهائيًا على الكاتب من خلال الكتاب الذي يقرؤه، إلا إذا تبين له أنه آخر كتاب له.
لتلافي ذلك يمكننا أن نقترح بعض النقاط التي تمثل مساقات لنقد القارئ لما يقرأ، وذلك في الآتي:
1- إن كثيرًا من الكتاب، لا يكتفون بعرض وجهات نظرهم، بل يسعون إلى إقناع القارئ بذلك، لكن الإشكال أن بعض الكتاب يلجأ إلى البيان والخطابة، دون المعلومات، وهذه الظاهرة من أكثر النواقص الكتابية.
2- بإمكان القارئ أن يقول في نقده: إن بعضَ المعلومات التي نقلها الكاتب غيرُ صحيحة، والقاعدة تقول: (إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيًا فالدليل)، فتوثيق المعلومات هو ما على الكاتب أن يفعله.
3- مما يمكن أن يكون نقدًا محددًا القولُ: إن الكاتب أهمَلَ عواملَ أساسية في أثناء بعض معالجاته، مما جعلها ناقصة، وهذا شائع في عالمنا الإسلامي.
خامسًا: القراءة المحورية:
القراءة المحورية هي تلك القراءة التي تستهدف الوقوف على معلومات وأفكار ومفاهيم، تتعلق بموضوع معين، فهي تستهدفُ استخراجَ كل ما يمكن استخراجه من الكتاب المقروء، فتَملُّك ما في الكتاب وفقهُه هو الغاية منها.
البداية:
كثيرًا ما تبرق عناوين لقضايا أو مشكلات، يرى المرء أنها تستحق البحثَ والمعالجة، وكثيرًا ما يجد المرءُ بعد ذلك أن الموضوع الذي ظَن أنه يمكن أن يكون محورًا لقراءات مكيفة قد قُتل بحثًا.
الخطوة الأولى: أن يطلع القارئ على الكتب والمراجع التي تعرض الأدبيات العامة للعلم الذي ينتمي إليه الموضوعُ الذي يقرأ من أجله، ويخدمه في ذلك الاطلاعُ على فهارس بعض المكتبات.
الخطوة الثانية: وتتمثل في قراءة الفصول والمقاطع والنصوص التي يرى أنها لَصِيقةٌ بموضوعه، ويجب أن تكون القراءةُ هذه المرة تحليليةً.
الخطوة الثالثة: وتتمثل في توزيع النصوص التي اخترناها على الأسئلة التي استطعنا بلورتها، والقارئ بحاجة إلى درجة عالية من الشفافية حتى يلتقط أجوبةَ أسئلته من نصوص ربما كانت في الأساس بعيدةً عن حقل الموضوع الذي يعالجه.
إن أصعب نقطة هي البداية، لكن لنكن على ثقة أننا سندهش من أنفسنا عندما ننطلق... والأمر لن يحتاج سوى الالتزام التزامًا جادًّا ودقيقًا بقراءة ساعتين يوميًّا مدةَ خمس سنوات على نحو متواصل، وستكون هناك نتائج باهرة، فوق ما نظن.
قراءة كتاب في التاريخ (نموذجًا):
إن معظم الكتب تتناول بعض المسائل والموضوعات في بعض العلوم، لكنها لا تمنحنا رؤية واضحة حول نوعية الأحكام والمعالجات التي تتم في ذلك العلم، ولا تبين مدى مصداقية التعميمات والقوانين التي يستخدمها الباحثون فيه؛ مما يولد بعض الانطباعات الخاطئة لدى القراء.
ومعرفة القارئ بتاريخ العلم الذي يقرأ فيه، وبطبيعته ومشكلاته الحقيقية، ستعودُ عليه ببصيرة معرفية لا تُقدر بثمن، وقد اخترتُ أن أقدم للقارئ هذه الخلفيةَ عن (علم التاريخ)، ولعلي أوجز ما أظنه يساعدُنا على تشكيل رؤيةٍ حول هذا العلم، في المفردات الآتية:
1- تعرَّض (التاريخ) إلى مواقفٍ متباينة كثيرة، فقد تعرض للإفراط والتفريط، فقوم جعلوه كلَّ شيء، وقال قوم آخرون: إنه لا شيء.
يرى الأستاذ (هرنشو) أن أقرب العلوم الطبيعية شبهًا بالتاريخ هو (الجيولوجيا)، فالمؤرخ يعتمد في معرفة الوقائع على آثار أو سجلات سَلِمت من عَوادي الزمن، وقيمتها في دلالتها على الماضي لا في ذاتها، وعلي المؤرخ أن يقوم بـ(الجراحة النفسية والعقلية)؛ ليستشرف العواملَ الخفية، لكن بين التاريخ والجيولوجيا مفارقة كبيرة، فالصخور شواهد محايدة، لكن وثائق التاريخ كُتبت بيد إنسانٍ، ويدرسها إنسانٌ له عواطفُه ومعاييره ومسلماته ومصالحه.
2- مهما امتلك المؤرخ من عناصرَ مساعدةٍ على قراءة التاريخ، فإنه لا يستطيع أن يجد كل المواد التي يحتاجها في بناء الصورة التي يوضحها للناس.
إن إشكالية المسألة التاريخية لا تنتهي عند جمع معلومات مجردة، حيث إنها أيضًا أسلوب رواية، وطريقة تحليل، ومنهج تركيب، وهذه مجتمعة تمثلُ أدواتِ تقديم المعرفة التاريخية.
3- من أخطر ما يتعرض له العمل التاريخي (الانتقائية)؛ فالروايات المتعددة حول حادثة ما، تُلزم المؤرخ أن يختار منها ما يتناسب مع رؤيته العامة لتلك الحادثة، فالانتقاءُ الذي يقوم به المؤرخ يجعل البنيانَ التاريخي كله انتقائيًا، أي أن ثقافة المؤرخ وحدسه ومدى اطلاعه على الواقعة ومركبه العقلي العام، ومزاجه وخياله.. كل ذلك وسائط وأدوات معرفية تشترك في تشكيل الصورة التي اجتهد المؤرخ في تقديمها.
4- طبيعة العمل التأريخي تُملي نوعًا من الالتزام الأدبي على المؤرخ نحو قرائه، فهو إلى جانب شعوره بضرورة توخي الدقة والأمانة، يشعر بضرورة تقديم صورة كاملة عن الحدث الذي يؤرخ له.
ولذا فإن المؤرخ يعُدُّ الحقائق القليلة المتوفرة، تمثلُ كلَّ الحقائق المحيطة بالحدث، وعليه من جهته أن يسد الثغرات، ويكمل النواقص التي فيها، ولن يكون ذلك إلا من خلال إصدار سلسلة من الأحكام التي ترسم صورة ما للواقعة التي يتحدث عنها.
5- اختلاف المؤرخين في سَوق الأحداث وتحليلها؛ يعود إلى أسباب كثيرة، ولعلنا هنا نشير إلى أهمها في المفردات الآتية:
1- للمزاج تأثيره في صياغة الحدث التاريخي، وهناك إلى جانب هذا أهواء التحيز أو الافتراضات المرتبطة باتباعِ المؤرخِ جماعةً معينة، أو مذهبًا معينًا.
2- مهما بلغ المؤرخ من العالمية، فإنه في النهاية يظل ابن بيئته ومحيطه، ووليد لحظات زمانه المتغير، فالبيئات الجغرافية والاجتماعية والثقافية، بكل ما تحمله من ثوابت وملامح ومعطيات وتقاليد ومفاهيم وأفكار وأمزجة؛ تبرمج آليةَ التفكير والتحليل والتفسير لدي المؤرخ.
3- حاول الباحثون في فلسفة التاريخ أن يقفوا على العوامل الرئيسة التي تتحكم في سير التاريخ، وقد تشعبت بهم السبلُ وأخذ منهم الاختلافُ كلَّ مأخذ في العامل الحاسم، وكل مؤرخ لا يجد بدَّا من التركيز على كل ما يدعم نظريته.
6- النتيجة التي يمكن أن ننتهي إليها من وراء كل ما سبق هي أنه ليس في أعمال المؤرخين موضوعية مطلقة؛ لأن المؤرخ مهما أكثر من محاولات إلزام نفسه بالبعد عن التحيز، فإنه لن يتوقى ذلك على نحو تام.
7- حين يقع حدث تاريخي ما، فإنه لا يقع في فراغ فكري أو اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو جغرافي، بل تظل هناك عواملُ مؤثرة في صياغة حجم الحدث ومضمونه، ودلالته ونتائجه، ولا بد أن يراعي المؤرخ وقارئُ التاريخ ذلك؛ حتى لا يسيء الفهم.
8- لم نُرد من وراء ما ذكرنا الحطَّ من قدر التاريخ، وإنما أردنا أن نوضح بعضَ المعالم التي تساعد على تكوين خلفية ثقافية لدى من يطالع في كتب التاريخ، على أمل أن يكمل القارئ عملَ المؤرخ، فالكتاب التاريخي لا يؤدي رسالته المعرفية من غير تَلَقٍّ حَسَن من قُرائه.
ومما يساعد القارئَ في كتاب تاريخي على فهم عميق: أن يقوم بطرح سلسلة من الأسئلة، وذلك نحو:
1- هل المؤرخ ذو صبغة مذهبية معينة، أو اتجاه فكري معين؟
2- هل البيئة التي ينتمي إليها بيئة مغلقة، أو بيئة مفتوحة تختلط فيها الأعراق والأجناس والثقافات؟
3- هل المؤرخ ممن يحاول أن يترك مسافة واعية بين رأيه الشخصي وبين الأحداث التي يؤرخ لها؟
4- هل المؤرخ على دراسة حسنة بما يكتب عنه، وهل مصادره التي اعتمد عليها موثوقة؟
5- هل المؤلف يكثر من التفاصيل الدقيقة في رواياته، أو أنه يكتفي بالوقوف عند أصول الأخبار والوقائع؟
الخاتمة:
كان القصد الأساسي من وراء هذه الرسالة تعزيز الاهتمام بممارسة القراءة واصطحاب الكتاب، بالإضافة إلى تحسين فعل القراءة، واستثماره على أفضل وجه ممكن.
ولا يخفي أن ما ذكرناه هو النموذج الأرقى في تنظيم الجهود القرائية، وسيكون بإمكان كل قارئ أن يقترب من ذلك النموذج على مقدار ما تسمح به إمكاناته وظروفه.
إنني أعتقد أننا سننال من القراءة أكثر؛ كلما كان وعيُنا بما نريده من ورائها أكثرَ نضجًا وتنظيمًا
منقول من منتدى الألوكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق